في خضم الكارثة الإنسانية المتصاعدة في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023، تبرز واحدة من أعقد وأشد القضايا حساسية: إدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية. وبين التعقيدات اللوجستية والتجاذبات السياسية، طُرحت مبادرات عديدة، بعضها كان قادراً على إحداث تغيير حقيقي... لكنّه قُمع قبل أن يرى النور.
مع تكدّس آلاف الشاحنات عند المعابر، بعضها منذ شهور، بات من المشكوك فيه صلاحية محتوياتها للاستهلاك البشري، خاصة في ظل حرارة الصيف وقلة التبريد. توقفت عروض الطائرات التي كانت تُسقط المساعدات من الجو، بعد أن أزهقت أرواحًا بريئة وأصابت الجوعى الذين هرعوا خلفها.
وبينما يناقش الاحتلال آليات توزيع المساعدات بحجة منع وصولها إلى المقاومة، طُرحت مبادرة فلسطينية متقدمة قد تُحدث تحولًا في المشهد الإنساني برمّته، لكنها أُجهضت تحت ضغط إسرائيلي مباشر.
المبادرة جاءت من رجل الأعمال الفلسطيني بشار المصري، خلال لقاء جمعه بأصحاب المصانع المدمرة في مدينة غزة الصناعية مطلع نوفمبر 2023. اقترح المصري تحويل المدينة الواقعة شرق غزة، والقريبة من معبر المنطار (كارني)، إلى مركز لوجستي إنساني لتخزين وفرز وتوزيع المساعدات بإشراف الأمم المتحدة وتنفيذ فلسطيني خالص.
الهدف كان واضحًا: استعادة الكرامة الوطنية والاعتماد على الذات. وبدلًا من الطائرات التي تقتل، والشاحنات التي تُنهب، كانت الفكرة تتمحور حول تسليم زمام إدارة الأزمة للفلسطينيين أنفسهم ضمن إطار رقابي دولي صارم.
ورغم أن الفكرة وجدت دعمًا أوليًا من مؤسسات أممية، وأُشيد بها كإطار مهني وإنساني متكامل، فإن المشروع لم يُفعّل أبدًا. السبب – حسب مصادر مطلعة – كان الفيتو الإسرائيلي غير المعلن، الذي رأى في هذه المبادرة تهديدًا لرواية الاحتلال وسيطرته على مسارات المساعدات.
ومع تعمّد إجهاض الفكرة، تحولت إدارة المساعدات إلى شركات أمنية أجنبية، تحت حماية جيش الاحتلال، في مشهد وصفه كثيرون بـ"المهين" للفلسطينيين، حيث يُفحَص الغذاء أمنيًا، وتُهان الكرامة عند نقاط التوزيع.
مئات الفلسطينيين يُصابون يوميًا، وبعضهم يُقتل، أثناء محاولة الوصول لنقاط توزيع المساعدات، خصوصًا في مواصي رفح أو قرب محور نتساريم، حيث تنتشر القوات الإسرائيلية. فالاحتلال يحدد أين توزع المساعدات، ويطلق النار على الحشود كلما أراد "إعادة التنظيم"، دون مساءلة.
هذا الواقع عزز حالة اللا ثقة بين الفلسطينيين والمؤسسات المانحة، حيث يرون أن المساعدات تُدار كأداة سيطرة سياسية وأمنية لا كمبادرة إنسانية.
مبادرة مدينة غزة الصناعية لم تكن فقط لإغاثة السكان، بل كانت فرصة لإنعاش الاقتصاد المحلي عبر توفير فرص عمل لمئات الفلسطينيين، وكسر مشهد "الانتظار السلبي" خلف المساعدات. المشروع طرح رؤية جديدة: ربط الإغاثة بالتنمية، في محاولة لبناء نموذج شراكة فلسطينية - أممية في ظروف الحرب.
لكن الرؤية لم تُستكمل، لا بسبب نقص الدعم أو تعقيدات التنفيذ، بل بسبب معارضة إسرائيلية مباشرة، تؤكد أن أي مبادرة فلسطينية للاستقلال الذاتي، حتى في الكوارث، مرفوضة.
إفشال المبادرة يفتح باب الأسئلة حول مدى الجدية الدولية في تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم، حتى في السياق الإنساني. فالمساعدات تحوّلت إلى أداة ضغط وترويض سياسي، لا إلى وسيلة إنقاذ فعّالة، ما يعيد إنتاج مشهد الأزمات في كل عدوان جديد.
في النهاية، ما خسره الفلسطينيون لم يكن مجرد مساعدات، بل فقدوا فرصة لإثبات قدرتهم على القيادة، والتمسك بالكرامة، حتى في زمن المجاعة والدمار.